ولكن لماذا يهب العالم والعرب تحديدا لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي؟!
في واقع الأمر تعددت الأسباب لتزايد الجهود الدولية لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي من أزماته الاقتصادية المتتالية، التي تعصف به من حين إلى أخر. ويمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
على المستوي العربي
كان من المفترض أن تستفيد الدول الخليجية من السيولة التي تُوفرها إيرادات النفط الكبيرة ولا تتأثر بانخفاضات السوق الأميركية؛ لأنه يفترض أن يكون اتجاه الأسواق العربية صعودياً؛ لأن البورصات تعكس الوضع الاقتصادي. وعلى الرغم من استفادة الدول العربية بصوره مباشره من زيادة الإيرادات النفطية بشكل متنامي، إلا أن هذه الزيادة في الإيرادات قابلها ارتفاع كبير في فاتورة الواردات؛ نتيجة الارتفاعات المتوالية في أسعار السلع والخدمات؛ كنتيجة مباشره لانخفاض قيمه الدولار عالمياً، الأمر الذي رفع من قيمه الواردات من الاتحاد الأوروبي واليابان والصين وباقي دول جنوب شرق أسيا .
وأدى انخفاض قيمه الدولار إلى انخفاض قيمه الاستثمارات العربية في أسواق المال والبنوك الأمريكية، وخصوصاً إذا علمنا أن الاستثمارات العربية في الولايات المتحدة هي الأكبر بنسبه 70% من إجمالي الاستثمارات العربية. ولذا كان من الطبيعي أن تتحرك الدول العربية لبذل الجهد لمحاوله إنقاذ الاقتصاد الأمريكي من عثرته؛ إنقاذاً لاستثماراتها من ناحية، وإنقاذاً لاحتياطاتها في البنوك المركزية، وتخفيضاً لارتفاعات الأسعار العالمية للسلع والخدمات.
ومن هذا المنطلق هبت المؤسسات الاقتصادية العربية لمد يد العون للبنوك الأمريكية المتعثرة مالياً، والمتأثرة بشدة بأزمة الرهن العقاري عن طريق الاستثمار بالمليارات في هذه البنوك. واتساقاً مع هذا أعلن المستثمر السعودي الأبرز ورجل الأعمال الوليد بن طلال رسمياً عن نيته شراء أوراق مالية قابلة للتحويل إلى أسهم يعتزم سيتي جروب بيعها في طرح خاص بقيمة 12.5 مليار دولاراً؛ وذلك سعياً منه لإنقاذ البنك المتعثر مالياً بصورة واضحة، والذي يمتلك منه 3.6%.هذا وتجدر الإشارة إلى أن سيتي جروب هو واحد من أكبر البنوك الأمريكية من حيث الأصول، وأنه مُني بخسائر في الربع الأخير من العام الماضي بلغت 9.83 مليار دولار. وكذلك هبت الكويت، عبر الهيئة العامة الكويتية التي تعود ملكيتها للدولة، بالتعاون مع سنغافورة لنجدة البنك الأمريكي سيتي بنك، حيث تعهدت الدولتان بإمداد البنك بمبلغ 12.5 مليار دولار، هذا وتُأكد مجموعة ميريل لينش صحة التقارير التي كانت قد تناقلتها وسائل الإعلام حول قرب استقبالها لسيولة على شكل استثمارات من صناديق عربية وعالمية، في مقدمتها الكويت بقيمه 6.6 مليار دولار على شكل استثمارات. وبالإضافة إلى ذلك أعلنت مجموعة "سيتي بنك" أن جهاز أبو ظبي للاستثمار استحوذ على حصة تبلغ 4.9 % من أسهم المجموعة بقيمة 7.5 مليارات دولار، في صفقة قد تُساعد المصرف المتعثر على جمع السيولة التي يحتاجها بشدة للخروج من الأزمة التي تعترضه بسبب خسائر الرهن العقاري.
أما على الصعيد الأوربي
بالرغم من استفادة أوروبا من ارتفاع قيمه اليورو مقابل الدولار لمستويات قياسيه عن طريق الارتفاع في قيمه الصادرات وخصوصاً مع الدول المتعاملة بالدولار، والانخفاض في فاتورة الواردات نتيجة لانخفاض أسعارها، إلا أن الأثر السلبي لانخفاض قيمه الدولار كان أقوى؛ حيث ارتفاع سعر اليورو أدى لانخفاض كبير في حجم الصادرات الأوروبية؛ نتيجة لارتفاع سعرها مقوماً بالدولار، كما أن انخفاض أسعار الواردات أغرى السوق بزيادة الواردات؛ فزادت كميه الواردات زيادة قياسيه، وزاد العجز التجاري.
وفي هذا الصدد، أظهر تقرير لمكتب الإحصاء الأوروبي في بروكسل أن العجز وصل إلى 10.7 مليارات يورو (16.9 مليار دولار) في يناير الماضي (2008) لمنطقة اليورو التي تضم 15 دولة أوروبية، وأن انخفاض سعر الدولار بدأ يُؤثر بشكل كبير على صادرات الاتحاد الأوروبي. فالاقتصاديون الأوربيون يرون أن ارتفاع سعر الدولار بعشر سنتات مقابل اليورو يُقلص معدلات النمو بنصف نقطه كاملة، وهو ما دفع البنوك المركزية الأوربية إلى اتخاذ الإجراءات لمسانده الاقتصاد الأمريكي عن طريق ضخ السيولة في البنوك لمساعدتها على مواجهه الأزمة، فقامت بضخ ما يزيد عن 300 مليار يورو خلال فترة ستة شهور، وتبعها في هذه الإجراءات البنك المركزي الياباني والبريطاني.
ولذا ذكرت صحيفة فاينانشال تايمز Financial Times أن البنوك المركزية في أوروبا والولايات المتحدة تُجري مباحثات حول إمكانية شراء الأوراق المالية المضمونة بالرهون العقارية، في محاولة لحـــل الأزمـــــة الائتمانيــــة العالميــة. وأن هناك خطة مشتركة بين البنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي الأمريكي وبنوك مركزية أخرى سيتم من خلالها ضخ المليارات من الدولارات في الأسواق المالية؛ لتوفير السيولة والتخفيف من آثار أزمة القروض العقارية الأمريكية.
وعلى الصعيد الأمريكي
فمع بداية أزمة الرهن العقاري الأمريكي عام 2007 تدخل البنك المركزي الأمريكي أكثر من مرة؛ لتهدئه أسواق المال عن طريق ضخ أموال في القطاع المصرفي تجاوزت حدود 300 مليار دولار خلال فتره ستة أشهر؛ وذلك في محاوله للتنشيط الاقتصادي . كما اتجه البنك المركزي إلى استخدام الأدوات المالية الأخرى للتأثير على الأوضاع الاقتصادية المتردية، فقام البنك بتخفيض سعر الخصم بين البنوك أكثر من مره، ثم قام بتخفيض أسعار الفائدة ست مرات منذ سبتمبر 2007 ، وهي إجراءات رفعت كثيراً من نسبة التضخم، وجعلت الدولار يهوي إلى أدنى مستوياته أمام اليورو الأوروبي، وجعلت الاقتصاد الأمريكي ينحدر بشكل متسارع نحو الركود. كما أعلن البنك المركزي الأميركي وبنوك مركزية أخرى عن خطة لضخ 200 مليار دولار في أسواق المال؛ لمساعدتها في التغلب على تداعيات أزمة قروض الرهن العقاري خلال الأيام القادمة.
وبنظرة متفحصة إلى الأدوات التي اتبعها البنك المركزي الأمريكي لمواجهة العجز نجد أن هناك خللاً كبيراً في استعمال السياسة المالية لمواجهة الأزمة، فمشكلة الاقتصاد الأمريكي لا تُعالج بتخفيضات متتالية في أسعار الفائدة؛ لأن الخلل فيه هيكلي وليس دورياً.
لذا أصبح الأمريكيون يعيشون بأكثر مما ينتجون ويكسبون، ويساعدهم على ذلك أمران : الأول، هو قيام بقية دول العالم بشراء سندات دين الحكومة الأمريكية بمليارات الدولارات. والثاني، هو احتفاظ البنوك المركزية حول العالم بمئات المليارات الدولارات ذات القيمة المتراجعة. ولا يمكن أن يستمر العالم في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي لمجرد أنه أكبر اقتصاد، أو لأن انهياره سيجر معه بقية دول العالم لركود كبير. فالتغيير المتوالي لأسعار الفائدة وسعر الخصم في فترات زمنيه بسيطة يُوحى للاستثمار بعدم الاستقرار، وهو ما يفسر عزوف معظم الدول عن الاستثمار في مجال السندات الأمريكية أو أسواق المال. فالاقتصاد الأمريكي يحتاج لقرارات قوية صعبة لا تقوى الإدارة الحالية على اتخاذها وخصوصاً في موسم الانتخابات، وليست مجرد مسكنات مؤقتة.
المصادر: تقرير واشنطن